لم تكن الإضاءة كافية في الغرفة. ولم يعد ذلك الفانوس العتيق يجدي نفعاً.. حين لملمت أوراقي وجلست أكتب لا أدري لمن أو من سيقرأ تلك الكلمات. المهم أن افتح نافذة لقلبي يتنفس منها ولو قليلاً.
- بين كل حدث نمر به أو لحظة يسرقها منا هذا الزمان بومضة سريعة .. لا بد وأن تكون هناك وقفة .. قد لا نشعر بها وقد نلتمسها ولكن بعين مغمضة لا تقوى على طرق أبواب مضت وبالكاد نمتلك حدس القادم .. حتى عندما نكون في هالته تشرأب عيوننا نحو ما مر بحسرة ..
فُتح الباب ببطء ودخلت زوجتي تحمل بيدها فنجاناً من القهوة .. تبدو شاحبة.. متعبة.. قلقة.. وأكاد أجزم أنها لا تفتر لحظة عن التضرع إلى الله ليحمي الجميع من هموم تزاحمت علينا مرغمين ..
حملت بعض الأوراق من الجهة اليمنى للطاولة وأنا أكلهما بعد تلك الومضة السريعة..
- ضعيه هنا.
- لقد نام الأطفال منذ فترة وأراك مجهد لما لا ترتاح قليلاً ..
- لم أكمل بعد .. أجلسي
نظرت في عينيها بعمق أردت رغم بصيص الضوء الخافت أن أطفأ تلك البراكين الثائرة بالحزن والخوف من المجهول..
- رئيس التحرير أعتذر عن نشر قصتي الأخيرة..
- ولمَ؟؟
- أختلق أعذاراً واهية مرة يقول أنها تعالج مسألة حساسة تمس الحكومة وتغلغل الفساد الإداري في أجهزتها. ومرة يقول أنها تنتقد القوات الأمريكية ؟
- لكن هذا هو الواقع؟؟
- الواقع عنده أن يحمي نفسه من كل الأطراف. أو بالأحرى أن يرضي كل الأطراف.
وضعت القلم على الطاولة وسرت نحو النافذة أحمل بيدي فنجان القهوة لأنظر ماذا يحدث في الخارج بعد أن تناهى إلى سمعي أصوات أصبحنا نخشاها ونستعد لها كلما أطبق الليل وغالباً ما تكون مداهمات.
- بالأمس اعتقلوا أولاد الحاج عبد الكريم .. من سيكون التالي هذهِ الليلة ؟؟
- أحذر من فتح الستائر .. قد يكون هناك قناصة في مكان ما ؟
يا ليتها تفهم أن القلب ما عاد يقوى على البقاء في ذلك القفص الذي أتعبه دخان السجائر ولمحات الموت الخاطفة .. وكيف لا يضيق وكنت لا أدخل المنزل أحياناً حتى الفجر .. أتنقل بين أمسيات على نهر دجلة وندوات شعرية ما زلت أعيش فيها .. ما كنت أتوقع أن تكون بغداد هكذا يوماً ما ..
اهتز البيت لانفجار غير بعيد عنا وأنا أرقب من النافذة جاري وهو يجر مقيد اليدين، أزحت ستائر النافذة أكثر لأرى المشهد بشكل أفضل، كان ثمة ضوء أحمر صغير يعتلي صدري مرة وأخرى يختفي ..
أحسست بعد لحظات بزوجتي وهي تنهض قائلة :
- سأرى الأطفال وأعود ..
لم تكمل كلماتها حتى أرتج جسدي .. نظرت إليها وهي تتجه ناحية الباب، أردت أن أقول لها أن لا تذهب لكن دون جدوى .. تشبثت بستائر النافذة وقد سالت الدماء لتشوه قميصي باللون الأحمر. كان صوت الفنجان وهو يسقط على الأرض وينكسر كطبول الوداع تدق في رأسي لتعلن ما كانت تخشاه زوجتي.