صدر كتاب تاريخي للأستاذ علي خنوف بعنوان (تاريخ منطقة جيجل قديما
وحديثا ) عن منشورات الأنيس في غضون هذه السنة(2007م) ، وهو كتاب عام موجه
للجمهور العريض بالدرجة الأولى ، غير أنه لا يخلو من فوائد جمة حتى بالنسبة
للباحثين والدارسين المتخصصين . ولعل أهمية الكتاب تكمن في كونه أول لبنة
في كتابة تاريخ منطقة جيجل كتابة شاملة (من العهود القديمة إلى القرن
التاسع عشر الميلادي ) .
وما من شك أن نزول الفينيقيين بها للتجارة ، يؤكد أنها كانت آهلة
بالسكان الأصليين (الأمازيغ ) منذ زمن بعيد كغيرها من المناطق الساحلية ،
ثم ترك أهلها بصماتهم في التاريخ بقوة حينما ارتبط قيام الدولة الفاطمية
الشيعية بقبيلة كتامة الأمازيغية في القرن العاشر الميلادي . كما كانت
منطقة جيجل حاضرة في أهم منعرج تاريخي في مطلع التاريخ الحديث ، ألا وهو
نزول الأتراك العثمانيين بأرض الجزائر عقب نكبة احتلال الاسبان لمدينة
بجاية سنة 1510م ، وكانت بلدة جيجل أول موطئ قدم لهؤلاء الأتراك المسلمين
الذين لبوا نداء النجدة الموجه لهم من طرف أعـــيان بجاية، وفي مقدمتهم أبو
العبــاس أحمد بن القاضي الزواوي مثلما ذكر المؤرخ بن عسكر في كتابه دوحة
الناشر .
ومن هنــا فان المفارقة العجيبة أنه رغم الأدوار البــارزة التي
لعبتــها هـــذه المنطــقة عبرا لتاريخ ، فان مآثرها وأمجادها مسكوت عنها ،
وهو الأمر الذي يثير عدة تساؤلات .
فبماذا نفسر عزوف أهلها والكتاب العرب عن تدوين تاريخها تدوينا مفصلا ؟
ولئن كان المؤلف قد حاول في مقدمة الكتاب تفسير ذلك بغياب سلطة سياسية
قوية في المنطقة تجلب اهتمام المؤرخين ، فان ذلك لا يعفينا من طرح أسئلة
عديدة ، هل حدث أن كتب أهلها لكن مدوناتهم تعرضت للتخريب والضياع ؟ هل
يفسر ذلك برحيل نخبة جيجل مع السلطان المعز لدين الله الفاطمي إلى مصر ؟ أم
يعود ذلك إلى وقوع جيجل في ظل حاضرتين مزدهرتين من حيث المعارف والعلوم
وهما بجاية وقسنطينة ، وبالتالي دأبتا على استقطاب علمائها ؟
مصادر ومراجع الكتاب
ومهما يكن من أمر فان تاريخ جيجل لا يزال مبثوثا في المصادر والمراجع
الأجنبية ، خاصة الايطالية والاسبانية والفرنسية تنتظر جهود الدارسين ،
والحق أن بعض الباحثين الجزائريين قد بذلوا جهودا معتبرة لتسليط الأضواء
على جوانب معينة من تاريخ جيجل ضمن دراساتهم الأكاديمية ، نذكر منهم على
سبيل المثال لا الحصر الدكتور موسى لقبال الذي كتب حول تاريخ قبيلة كتامة ،
والدكتور نصر الدين السعيدوني الذي أدرج مدينة جيجل ضمن مشروعه العلمي
الكبير الموسوم بـ [ مدونة المدن الجزائرية] الذي لا يزال مخطوطا ينتظر من
يتكفل بنشره ،وكذا أعمال الدكتورة عائشة غطاس والدكتور صالح بن قربة
والدكتور عبد العزيز لعرج .
واعتبارا لتشتت المادة التاريخية لمنطقة جيجل بين طيات مصادر
ومراجع عديدة ، فقد تطلب جمعها وغربلتها وتحليلها من المؤلف سبع سنوات ،
ورغم أنه لم يدخر أي جهد للوصول إليها ، فان الحظ لم يحالفه – كما أخبرنا
حين تقديم كتابه بالمكتبة الوطنية بالحامة – في الوصول إليها جميعا ،
بالإضافة إلى عدم امتلاكه لناصية اللغات الأجنبية الضرورية لدراسة الفترة
الجنوية ( الايطالية ) في تاريخ جيجل التي ليست بالقصيرة (حوالي 250 سنة)
.غير أن ذلك لا يقلل من أهمية هذا الكتاب الذي يعد - حسب الكثير من
المثقفين – بمثابة اللبنة الأولى في كتابة التاريخ العام لمنطقة جيجل .
وإذا كانت المصادر التاريخية العربية شحيحة – في نظر المؤلف - في تغطية
العهود السابقة للاحتلال الفرنسي ، فان مراجع الكتاب متنوعة وثرية. أما
بالنسبة لفترة الاستعمار الفرنسي فان المؤلف قد وجد مادة تاريخية غزيرة ،
جراء توفر الكتب والتقارير المختلفة ، ولعل أهمها كتاب (شارل فيرو
Charles Féraud) الموسوم بـ ( تاريخ جيجل Histoire de Djidjelli ) .
وبالنظر إلى معضلة شح المصادر ، فقد ركز المؤلف في كتابه على أواخر
الفترة العثمانية والاحتلال الفرنسي ، خلافا لعنوان الكتاب الشامل للعهود
القديمة والحديثة ( نهاية القرن التاسع عشر )، لذلك نبه المؤلف في مقدمة
الكتاب إلى هذا الخلل حين قال : ( ... وبناء عليه لا ينتظر مني القارئ
الكريم الكثير من المعلومات في الفصول الأولى من الكتاب ، إذ أنها مجرد
توطئة للموضوع الرئيسي الذي يدور حوله . ولذلك سأكتفي في تلك الفصول
بالمعلومات العامة والاستنتاجات والتفســـــيرات المشتقة من الإشــارات
التي وجدتــها في أمهات الكتب التي ألفها المؤرخــون العرب
والإسلامـــــيون – ص3-) .
موقع منطقة جيجل وأصول سكانها
ذكر المؤلف أن منطقة جيجل ذات شكل مستطيل، يغلب على تضاريسها الطابع
الجبلي ذو الغطاء النباتي الكثيف ، يحدها البحر المتوسط شمالا ، أما من
الجنوب فتحدها جبال البابور وجبال سيدي إدريس شمــال القرارم ، ويحدها غربا
وادي بوغريون الذي يفصلها عن بجاية ، في حين يحدها شرقا وادي الرمال الذي
يفصلها عن منطقة القل . ونظرا لطابعها الجبلي فهناك شبكة واسعة من الأنهار
التي تخترقها مثل أنهار زياما منصورية ، وكليلي ، وتازة ، وكسير (غرب مدينة
جيجل ) ، وأنهار جنجن ، والنيل ، وسيدي عبد العزيز ، والرمال ، ووادي زهور
(شرق مدينة جيجل ) .
وبالنسبة لأصول سكانها فهي متعددة- برأي المؤلف - وفي مقدمتها العنصر
الأمازيغي الأصيل الذي تدعم بالعنصر العربي ( خاصة أهل الأندلس وأشراف
المغرب ) ، ثم العنصر التركي العثماني ، وقال المؤلف في هذا السياق : (...
بناء على هذا كله نستطيع أن نكون فكرة عن أصول سكان المنطقة الممتدة من
بجاية الى سكيكدة شمالا ، ومن قمم جبال بابور الى قمم جبال سيدي إدريس
جنوبا ونلخصها في أربعة عناصر أساسية : أمازيغ ، أندلسيون، عرب ، أتراك – ص
27 - ) . هذا ومن أهم القبائل الأمازيغية المستقرة فيها، كتامة (جنوب
جيجل ) المذكورة في رواية ابن خلدون ، وقد لعبت- حسب رأي الدكتور موسى
لقبال - بعض بطونها(جيملة ، ووجانة ) دورا بارزا في تأسيس الدولة الفاطمية
في القرن التاسع الميلادي ، وقبيلة زواغة ( بلدية فج مزالة ) التي عدها ابن
خلدون فرعا من كتامة ، وقبيلة بني خطاب المتاخمة لزواغة ، وقبيلة بني يدر
(بلدية الطاهير شرق مدينة جيجل ) وقبيلة توفوت (أقصى شرق مدينة جيجل )التي
لا يستبعد المؤلف أن تكون فرعا من القبيلة الأمازيغية الكبيرة (آيت دومر )
التي اشار اليها ابن خلدون ، وقبيلة لعوانة ، وقبيلة بني فوغال ، وقبيلة
بني فولكـــــاي ( غرب مدينة جيجل ) .
إن ما تجدر الإشارة إليه في سياق حديث المؤلف عن سكان المنطقة، هو
سكوت المؤرخين عن ذكر القبائل الأمازيغية وأنسابها وبطونها الخاصة بمنطقة
جيجل ، ودعم- في تفسيره لهذا السكوت- رأي المؤرخ مبارك الميلي الذي فسر ذلك
بعاملين اثنين : قلة إحاطة ابن خلدون بتاريخ المنطقة ، وقلة شأن سكان
المنطقة الذين لم يؤسسوا حواضر تستقطب اهتمام المؤرخــين . ولعل
الشفيــــــــــع لهذه المعضلة التـــــــــاريخية، إمكــانية
الاستعـــانة بعلم أســماء الأمــاكن (la toponymie ) لمعرفة التواجد
الأمازيغي أكثر في هذه المنطقة ، وفي هذا السياق توجد سلاسل جبلية وأراض
تحمل أسماء أمازيغية ، ذكر بعضها المؤلف منها : تاكسانة ، اراقن ، تابابورث
، تازة ، تامزقيدة ، تامظلمت ، تافرطاست وغيرها(ص . هذا ورغم أن
المؤلف قد أقر الرأي المرجح للأصل الفينيقــي لمدينة جيجل ، فانــه لا
يستــبعد أن تكــون الكلمــة الأصليــة ( ايجيجلي ) أمازيغية ( ص34 ) .
وبالنسبة للعنصر العربي الوافد الى منطقة جيجل ، فان المؤلف لم
يتعمق في دراسته ، إذ اكتفى بالإشارة الى أصوله الأندلسية، والمغربية (
أشراف مدينة فاس ) ، والصحراوية ( الساقية الحمراء) . ولعل ما زاد في أمر
صعوبة تحديد العنصر العربي ، هو تعريب العنصرالأمازيغي ، وتخلي سكانـــه عن
نسبهم الأصلي، وادعاء النسب المغربي ، الذي يبدو أن المؤلف غير مقتنع به ،
حين قال : ( ... وهذه الادعاءات مازالت بقاياها الى اليوم متوارثة ، فمثلا
قبيلة لعوانة غرب مدينة جيجل جاء جدها الأول من المغرب ، وبني يدر وبني
حبيبي هما كذلك جاء جدهما الأول من المغرب ، وأقلية منهم جاء جدهم من مناطق
الجزائر ، ولا نجد قبيلة واحدة تدعي بأنها عريقة في المنطقة – ص26 - ) .
ومن جهة أخرى فان المؤلف لم يستبعد تعمير منطقة جيجل بالعناصر العربية
المغضوب عليها في إطار الصراع من أجل السلطة بين أطراف متعددة ، خاصة في
عهد العباسيين الذين كثر خصومهم في المشرق ، وكذا المغرب الإسلامي الذي
التجأ إليه أنصار الفكر الخارجي(ص 38 /39) . أما العنصر التركي فقد اكتفى
المؤلف بالإشارة إليه أشارة خفيفة ، تجعل القارئ يستنتج أنه كان ضئيلا أن
لم يكن معدما . والحق أن انصهار هذه العناصر في بوتقة الحضارة العربية
الإسلامية ، قد جعل التمييز بينها أمرا صعبا.
العهود التاريخية الكبرى في منطقة
جيجل
تتميز منطقة جيجل بعراقة تاريخها الضارب بجذوره في أعماق عصور ما قبل
التاريخ ، وفي هذا السياق أشار المؤلف إلى مغارة ( تازة) التي اكتشفها
الفرنسيون سنة 1926م ، الذين أطلقوا عليها اسم مغارة لا مادلين -
الموجودة بفرنسا - لتشابه الأدوات الحجرية التي عثروا عليها فيهما ، وكذا
هضبة بني قايد المطلة على مدينة جيجل ، التي اكتشفها الفرنسيون ما بين
(1952-1954م ) . ثم استعرض العهود التاريخية الكبرى التي تعاقبت عليها ،
من فينيقيين ورومان ومسلمين وأتراك عثمانيين ، وصولا إلى الاحتلال الفرنسي
. وتميز التواجد الفينيقي بانحصاره في الثغور البحرية ، ولعل ما يؤكد ذلك-
في نظر المؤلف – وجود بقايا قبور تشبه أطلال المدن الفينيقية الساحلية في
شمال افريقيا . أما العهد الرومــاني والوندالي والبيزنطي ، فقد حدد
المؤلف فترته ما بيــن(146ق.م – 670 م ) ، وكان دور المنطقة ثانويا ينحصر
في إسكان جنود الرومان المسرحين ، لذلك فان المواقع الآثارية التي اكتشفها
الفرنسيون تتميز بالبساطة ، وليس بها أطلال مسارح وحمامات .
وبالنسبة للعهد الإسلامي فان منطقة جيجل لم تكن – برأي المؤلف- ضمن
محور الطريق الذي سلكه الفاتحون الأوائل الذين تغلغلوا في شمال افريقيا
عبر الهضاب العليا البعيدة عن البحر. هذا وباستثناء الدور البارز الذي
لعبته هذه المنطقة في تأسيس الدولة الفاطمية ، فقد ظلت جيجل بلدة من الدرجة
الثانية تسير في فلك بجاية ، أيام الحماديين والموحدين والحفصيين(ص46) .
هذا وتجدر الإشارة إلى خضوع مدينة جيجل للاحتلال الجنوي (الايطالي ) لمدة
تزيد عن قرنين ( 1260م- 1513م ) ، ورغم طول هذه المدة فان المؤلف لم يسلط
عليها أضواء الدراسة وهذا لعدم تمكنه من المصادر الايطالية. ولم تتحرر جيجل
من هذا النفوذ الأوروبي إلا بفضل جهود الأخوين عروج وخير الدين
العثمانيين .
أما عن بداية العهد العثماني في جيجل فانه مرتبط بسقوط بجاية
بين أيدي الاسبان سنة 1510م ، ويرجح المؤلف أن يكون دخول الأتراك بقيادة
الأخوين عروج وخير الدين إليها سنة 1514م ، وجعلوها قاعدة انطلقوا منها
لتحرير بجاية ، واستفادوا من سواعد أهلها في الجهاد البحري ضد الخطر
الاسباني الذي كان يلاحق مسلمي الأندلس ، ويهدد سواحل المغرب الكبير ، كما
استفادوا أيضا من غاباتها لبناء السفن و لتجديد مدينة جزائر بني مزغنة،
التي جعلوها عاصمة لهم بعد إلحاق القطر الجزائري بالدولة العثمانية . ومما
يؤكد أهمية مدينة جيجل بالنسبة للوجود العثماني في الجزائر ، هو انكفاء خير
الدين اليها بعد أن استولى أحمد بن القاضي – أمير إمارة كوكو بجرجرة – على
مدينة الجزائر لمدة خمس سنوات ( 1520م -1525م ) . ومن الأحداث المستحقة
للذكر خلال العهد العثماني تعرض مدينة جيجل للهجوم الفرنسي سنة 1664م ، لكن
انتصار الفرنسيين لم يلبث أن تحول إلى هزيمة نكراء بفضل تضافر جهود
الجزائريين ، فخسر العدو جنوده وعدته ، فغنم أهل بني يعلى –الذين شاركوا في
هذه المعارك - مدافع حديثة .
هذا وقد تمكن الأتراك العثمانيون من بسط نفوذهم على جيجل بفضل قبائل
المخزن التي وضعت نفسها في خدمتهم مقابل حصولها على عدة امتيازات، ذكر
المؤلف بعض قادتها ، منهم ابن فرحات في عرش بني ميمون ، وابن حبيلس في عرش
بني فوغال ، وابن عرعور في جبال البابور (ص90) . واعتمدوا أيضا على بعض
رؤساء القبائل والمرابطين الذين شكلوا شبه إمارات مستقلة ، ذكر منهم المؤلف
ابن عاشور في فرجيوة ، وابن عز الدين في زواغة والحاج أحمد المكي أمقران
في مدينة جيجل .
ثورة ابن الأحرش (1801-1805م)
تعتبر ثورة ابن الأحرش من أخطر الثورات التي عصفت بنفوذ الأتراك
العثمانيين في منطقة جيجل في مطلع القرن التاسع عشر الميلادي ، ولعل ما
ميزحياة زعيمها هو الغموض الذي أحاط بها فظلت تفاصيلها مجهولة ، فالمعروف
منها يختزل في كونه شريفا قدم من المغرب ، واستغل سذاجة الريفيين – الذين
كانوا يصدقون كل قادم إليهم يدعي النسب الشريف- من أجل أن يشيع في أوساطهم
بأنه (مول الساعة ) أي الرجل الذي سيجعله الله مفتاحا للفرج ، يخرج الناس
من البؤس والعذاب إلى حياة السعادة ورغد العيش. ولا شك أن استبداد الحكام
ووطأة جورهم وتعســـف عمالهم في جمع الضرائب ، قد جعل الأوضاع الاجتماعية
مرشحة للانفجار في أي وقت . هذا ومن جهة أخرى، ذكر المؤلف أن ابن الأحرش
قد تلقى الدعم من الانجليز الذين كانوا في صراع مع الفرنسيين. ومهما يكن من
أمر فقد كانت هذه الثورة على قدر كبيرمن القوة ، مكنتها من الاستمرار لمدة
خمس سنوات أذاقت خلالها للأتراك العثمانيين الأمرين ، وأرغمتهم على سحب
حاميتهم من المدينة وألحقت بصفوفهم خسائر بشرية معتبرة ، وفي مقدمتها قتل
الباي عصمان سنة 1804م اثر خروجه من عاصمته قسنطينة متوجها إلى جيجل لتأديب
ابن الاحرش وأتباعه . وبعد جهد جهيد نجحوا في الضغط عليه ، فاضطر إلى
الانسحاب من جيجل وتوجه إلى الغرب الجزائري، لينضم إلى صفوف الزاوية
الدرقاوية أثناء دخولها في صراع مع الأتراك العثمانيين .
الاحتلال الفرنسي لجيجل سنة 1839م
شارك أبناء جيجل في مقاومة الفرنسيين ما بين (1830-1838م) في مدن
الجزائر وقسنطينة وسكيكدة ، قبل أن تقع مدينتهم في أيديهم سنة 1839م ،
ورغم تمكنهم من إقامة حامية بالمدينة ، فقد ظلت المنطقة خارج نفوذ
الفرنسيين بفعل ضراوة المقـــاومة الشعبية لعشرية كاملة ، لذلك قرر الجيش
الفرنسي شن حملات الإبادة التي استهدفت السكان العزل بالدرجة الأولى،
لترويعهم وحملهم على الاستسلام . وجاءت في هذا السياق حملات الضباط : سانت
أرنو سنة1851م ، وماكماهون سنة 1852م ، وراندون سنة 1853م ، ارتكبت القوات
الفرنسية أثناءها من أهوال التقتيل والإبادة والتخريــب والحرق
والتدمــير، ما جعلها تصنف ضمن الجرائم الكبرى في التاريخ . ورغم ذلك كله
فان أهلها لم يستكينوا ، إذ لم تكن ثوراتهم تهدأ إلا لتنطلق من جديد،
مثلما حدث في عرش زواغة الذي ثار سنة 1864م بقيادة الشيخ محمد مقدم
الطريقة الرحمانية ، بدعم من الأسرتين العريقتين : بن عاشور في فرجيوة ،
وبن عز الدين في ميلة، وقد أوكل الفرنسيون أمر القضاء عليها- بعد اضعافها-
لحليفهم بلقاسم بن حبيلس الذي نجح في إلقاء القبض على الشيخ محمد وتسليمه
للفرنسيين .
كما ثار عرش أولاد عيدون في الميلية في مطلع سنة 1871م، وهاجموا
المواقع الفرنسية هناك، لذلك فمن الطبيعي أن يحتضن أهل جيجل ثورة الشيخ
الحداد والمقراني المندلعة في ربيع سنة 1871م، من خلال استجابة أعيان
وشيوخ تابابورت وبني قايد وتاكسانة وبني عمران وبني خطاب والعوانة وغيرهم ،
لنداء سي عزيز بن الحداد ، وبرأي المؤلف فان جهود هؤلاء قد لعبت دورا
أساسيا في امتداد هذه الثورة إلى كل أعماق جيجل (ص151)، فتحررت كل المناطق
الممتدة من بجاية إلى مدينة جيجل التي صارت قاب قوسين أو أدنى من السقوط .
ولعل أهم استنتاج للمؤلف من غمار المعارك التي دارت رحاها في الجبال
الغربية والجنوبية ، هو نجاح فرنسا في جزأرة المعارك ، إذ لم تشارك فيها
بجنودها ، بل بواسطة أعوانها المحليين (ص153) . كما ذكر أيضا بجرائم
الجنرال ( دى لاكروا) الذي أباد المدنيين العزل في مناطق كثيرة كزواغة وبني
خطاب وغيرها ، خاصة في شهر أ وت من سنة 1871م .
وقد انتهت هذه الثورة - كما هو معلوم – بانهزام الجزائريين لأسباب
عــديدة ، كسوء التنظيم وقلة العدة وضعف التسليح ، واستسلام القيادة
المركزية بعد استشهاد الشيخ المقراني. وكانت نتائج الحرب وخيمة على السكان
،إذ تعرضوا لعقوبات فردية وجماعية رهيبة ، كالسجن والنفي وفرض الغرامات
الباهظة ومصــادرة أملاكــهم وأرزاقهم ، وفي مقدمتــها الأراضي السهلية ،
التي وزعت على المستوطنــين الفرنسيــين، وتفاقمــت أوضــاع الأهــالي
بانتشار الفقر المدقع ، فاضطر العديد من أهالي القرى إلى الهجرة نحو
المدن، كسطيف وقسنطينة وسكيكدة.
هذا وتجدر الإشارة في الخير إلى أهمية الوثائق المنشورة في قسم
الملاحق ، تتعلق بمصادرة أملاك المواطنين في مراحل تاريخية مختلفة ، كان
آخرها ثورة 1871م .
والخلاصة أن هذا الكتاب جدير بالقراءة ، باعتباره جهدا محمودا
ولبنة جديدة في بناء صرح المكتبة التاريخية الجزائرية بأقلام الجزائريين
،الذين يعيدون قراءة ما كتبه الآخرون عنا، قراءة موضوعية ، ذات مسحة
وطنية ، من أجل تخليص ماضينا من إسقاطاتهم الإيديولوجية المختلفة التي كانت
لها تداعيات خطيرة على الناشئة .