قبل أن أحلل المعلومات التي أوردها الفرنسيون في تقاريرهم,لا بد من
الإشارة إلى بعض الملاحظات حول تلك التقارير سالفة الذكر,منها التعديلات التي
أدخلتها على الترجمة كتقديم و تأخير بعض الفقرات,ليكون أسلوبا قريبا من أسلوب اللغة
العربية.
و من الملاحظات الواضحة كذلك الفرق بين التقارير التي كتبت في الستينات
من ثورة القرن التاسع عشر قبل ثورة المقراني,والتي كتبت في التسعينات من نفس القرن
بعد ثورة المقراني,لأن الأولى أمضيت من أعلى سلطة في فرنسا,إذ أمضاها الإمبراطور
نابليون الثالث أمضيت في الجزائر من طرف الحاكم العام أو كاتبه الخاص,كما تعد
التقارير الثانية أهم من الأولى,لأنها تحتوي على تفاصيل أكثر فيما يخص أصول السكان
و مصادرة الأراضي السهلية الخصبة و تشييد المستعمرات
الإستطانية.
أما من حيث المصداقية فأغلبها صحيح,كوصف السكان و منازلهم,و وسائل
الإنتاج الفلاحي البدائية,و تربية الحيوانات و النحل,و إحصاء أملاكهم,و مشاركتهم في
جميع الثورات التي وقعت في المنطقة ما بين 1839 و 1871 و مصادرة
جميع أراضيهم السهلية و علاقتهم بالحكم التركي السابق,و توثيق الأساطير التي كانت
متوارثة شفهيا بينهم فيما يخص الجد الأول لكل قبيلة و عشيرة.
فقد اهتم الفرنسيون بتسجيل إدعاءات أعيان تلك القبائل بالنسبة إلى جدها
الأول الذي تنسب إليه,فمثلا بني فوغال ينسبون إلى جدهم الأول فوغالة,و بني عمران
إلى جدهم الأول عمران و هكذا,فحوالي تسعين في المائة منهم ينسبون إلى جدهم الأول,و
أغلب هؤلاء الأجداد جاءوا من الساقية الحمراء بموريتانيا أو ساقية الروم,أو من
المغرب.
و هذه الإدعاءات مازالت بقاياها إلى اليوم متوارثة,فمثلا قبيلة العوانة
غرب مدينة جيجل جاء جدها الأول من المغرب,و بني يدر و بني حبيبي هما كذلك جاء جدهما
الأول من المغرب,و أقلية منهم جاء جدهم من مناطق الجزائر,و لا نجد قبيلة واحدة تدعي
بأنها عريقة في المنطقة.
و بناء على هذه المعلومات و الإدعاءات المتوارثة شفهيا عبر الأجيال و
التي وثقها الفرنسيون في سجلاتهم الإدارية الرسمية.و على اللهجة التي يتحدثون بها,
و على بعض العادات و التقليد , و على مجريات الأحداث التاريخية كظهور الدولة
الحمادية في بجاية غرب المنطقة,و غرس بدور الدولة الفاطمية في جنوبها, و دخول
الجيوش الموحدية إلى مدينة جيجل, و كذلك الدولة الحفصية, و في الأخير استقر الأخوان
عروج و خير الدين بمدينة جيجل في بداية العهد العثماني.
بناء على هذا كله نستطيع أن نكون فكرة عن أصول سكان المنطقة الممتدة من
بجاية إلى سكيكدة شمالا, و من قمم جبال البابور إلى قمم جبال سيدي إدريس جنوبا, و
نلخصها في أربع عناصر أساسية: أمازيغ,أندلسيون,عرب و أتراك فهذه العناصر الأربع هي
التي إنصهرت و كونت سكان المنطقة الذين وجدهم الفرنسيون سنة 1899. و على الأرجح أن
يكون بداية ذلك الانصهار في القرن الثالث عشر أو الرابع عشر,حسب المعطيات السابقة,
و كذلك عدم ورود أسماء تلك القبائل في المصادر التاريخية أو الجغرافية العربية
الإسلامية قبل القرن السادس عشر, و على الأرجح كذلك أنه بدأ بطريقة فردية
تسللية.
و بعد العنصر الأمازيغي أول من دخلها, فبعد ما يتخلى عن منطقته لسبب من
الأسباب يلتحق بالمنطقة الجديدة بصفة فردية فيقلم و يشذب الغابة, و بعد مرور قرن أو
قرنين يتكاثر نسله و يشكلون عشيرة و يطلقون عليها إسم الجد الأول الذي يكون مثلا
إسمه أحمد,فيطلقون عليها إسم أولاد أحمد, و بمرور قرنين آخرين تنمو تلك العشيرة
فتتوسع في الغابات المجاورة, و تتعدد عشائرها و تصبح قبيلة أو عرشا, و تغيير بداية
الإسم و يقلب من أولاد أحمد إلى بني أحمد, و بهذه الكيفية تشكلت قبائل المنطقة
الممتدة من بجاية إلى سكيكدة , و أثناء تكونها حسب الكيفية المشار إليها دخلت عليها
عناصر جديدة أندلسية و عربية و تركية.
و منذ البداية وقع الإنصهار بين تلك
العناصر, و يعد تكونها حديثا,أما بالنسبة للعمق التاريخي , فلا يتعدى القرن القرن
الثاني عشر ميلادي على أبعد تقدير, لأن المنطقة قبل ذلك كانت عبارة عن غابات بكر ,
و يرجح هذا الاحتمال الأساطير المتوارثة و مجريات الأحداث التاريخية التي مرت بها
المنطقة و الواقع الملموس, و لذلك يبدو واضحا انصهار العنصر الأمازيغي و الأندلسي
في القبائل الساحلية مثل العوانة و بني قايد و بني أحمد و بني عمران و أولاد بلعفو
و بني سيار و بني يدر و الجناح و بني حبيبي و بني فرقانو غيرهم, كما يظهر العنصر
الأمازيغي العربي واضحا في القبائل الجنوبية مثل بني خطاب و الشراقة و زواغة و
جيملة, و بنفس المثل يتجلى العنصر العربي التركي أو الأمازيغي التركي العربي في
مدينة جيجل و ضواحيها.